فى رحلة البحث عن كنوز مصر

فى رحلة البحث عن كنوز مصر

الثروات المعدنية موزعة على سطح الكرة الأرضية، لكن قلّما تجد بلداً اجتمعت فيه تنوعات جيولوجية وثروات طبيعية كما هى الحال فى مصر. فمحاجر الرخام والجرانيت ليست سوى جزء من هذا الإرث الطبيعى الفريد، الذى ينتظر تفعيل طاقته الكامنة وتحويله إلى قوة اقتصادية داعمة للنمو والتنمية.

وتتنوع التكوينات الصخرية فى مصر ما بين الصخور الرسوبية، والنارية، والمتحولة، لتمنحنا طيفاً واسعاً من الخامات مثل: الذهب، والفضة، والنحاس، والفحم، والألماس، والكوارتز، والفلسبار، والبوكسيت، والفوسفات، والملح الصخرى، واليورانيوم، والرمال السوداء.

أراضٍ تزخر بالخيرات التى لم تُكتشف بعد، وتحتاج فقط إلى العلم والخبرة لتُخرج كنوزها إلى السطح.

وحتى الآن، لم تتم تغطية أغلب الأراضى المصرية بأعمال مسح جيولوجى حديث، ما يعنى أن كثيراً من الكنوز ما زالت حبيسة الجبال تنتظر من يطرق بابها.

لقد أعاد منجم السكرى للأذهان صورة الفراعنة وهم يستخرجون الذهب من أعماق الأرض، وأعاد معه الأمل فى أن مصر لا تزال تمتلك كنوزاً غير مستغلة.

وبالقياس، فإنَّ قطاع الرخام والجرانيت يشهد ذات المعادلة: وفرة غير مستثمرة، ومناطق ما زالت بكراً لم تُكتشف بعد، خاصة فى سلاسل الجبال الواقعة فى البحر الأحمر وجنوب الصعيد وسيناء، والتى تشير الدراسات الأولية إلى احتوائها على خامات نادرة ومميزة.

صحيح أن بعض المحاجر القديمة جفّت ضروعها، لكنَّ إعادة تخطيطها واستثمارها وفق أسس علمية يمكن أن يعيدها للحياة، كما هى الحال فى منطقة الشيخ فضل، التى كانت لسنوات طويلة من أهم مناطق استخراج الرخام المصرى، قبل أن تتراجع نتيجة غياب التطوير، وارتفاع التكاليف.

غير أن ارتفاع تكلفة التراخيص، وتدنى أسعار الخامات محلياً وخارجياً أثنيا البعض عن العمل فى هذه المناطق، على الرغم مما تحمله من جودة وتنوع نادريْن، لا يتكرران فى الكثير من الأسواق العالمية.

فى الوقت نفسه، فإنَّ قطاع الرخام يحمل إمكانيات تصديرية هائلة يمكن أن تسهم فى تحسين ميزان المدفوعات، وزيادة حصيلة النقد الأجنبى، وخلق فرص عمل كثيفة فى المحافظات التى تنتشر بها المحاجر والمصانع.

إذ يمتاز الرخام المصرى بجودة عالية وتنوع لونى وجمالى يجعله مطلوباً فى الأسواق الأوروبية والخليجية والآسيوية، وهو ما يمنحه ميزة تنافسية إذا ما تم تسويقه بشكل احترافى.

اقرأ أيضا: رئيس غرفة صناعة مواد البناء: الرخام يتحول إلى “مستهلك للخامات المستوردة”

لكن ضعف القيمة المضافة بسبب تصدير الخامة على حالتها الأولية، يحد من العائد الاقتصادى الحقيقى لهذا القطاع، ويجعل مصر تخسر فرصاً كبيرة فى أسواق تصديرية تبحث عن المنتج النهائى الجاهز للاستخدام فى الإنشاءات والتصميم الداخلى.

وإذا ما تحولت مصر إلى تصدير الرخام كمنتج مُصنَّع ومُعالَج بدلاً من تصديره خاماً، فإنَّ العائدات ستتضاعف، وسينشأ حول هذا النشاط نسيج صناعى متكامل يضم التقطيع والتلميع والتشكيل والنقل والتغليف، ما يعنى خلق فرص عمل مباشرة وغير مباشرة، وزيادة فى حجم الضرائب والرسوم، إلى جانب تعزيز التصدير الصناعى على حساب تصدير المواد الخام، وهى معادلة تنتهجها الدول المتقدمة لضمان استدامة العائدات وتعظيم الفائدة الاقتصادية من ثرواتها.

ولعل من أبرز ما تحتاجه مصر فى هذا الإطار هو توطين صناعة الرخام، ليس فقط كعملية تصنيع، بل كمنظومة متكاملة تشمل التدريب الفنى، والتطوير التكنولوجى، وربط الصناعة بالبحث العلمى.

كما أن توطين الصناعة يعنى أن تكون مصر مركزاً إقليمياً لتصنيع الرخام وتصديره، بما يضمن استقرار سلاسل القيمة والإمداد، ويُغنى البلاد عن استيراد معدات أو خدمات من الخارج يمكن تصنيعها أو تقديمها محلياً.

كما أن التوطين يسهم فى سد الفجوة بين التعليم الفنى واحتياجات السوق، عبر إنشاء مراكز تدريبية متخصصة فى تقنيات استخراج وتصنيع الأحجار، وهو ما يرفع من جودة المنتج ويعزز قدرته على المنافسة عالمياً.

فى الوقت ذاته، فإن فتح أسواق جديدة فى أفريقيا وآسيا يمكن أن يخلق طلباً مستقراً ومستدامًا، خاصة فى ظل الطفرة العمرانية الهائلة التى تشهدها تلك المناطق. فدول مثل كينيا ونيجيريا وتنزانيا والسنغال، أصبحت بحاجة إلى مواد بناء عالية الجودة، بينما تُظهر دول الخليج والهند والصين اهتماماً كبيراً بالرخام المصرى لمزاياه الجمالية وسعره التنافسى مقارنة بالرخام الإيطالى أو التركى.

وتُعد المشاركة فى المعارض الدولية المتخصصة، وإنشاء مكاتب تجارية فى الأسواق المستهدفة، من الخطوات الضرورية لدعم حضور الرخام المصرى عالمياً.

ومن الأهمية بمكان أن تتبنى الدولة خطة شاملة لتطوير القطاع تشمل استخدام التكنولوجيا الحديثة فى الكشف عن المواقع الجديدة، وتمهيد الطرق فى المناطق الجبلية الوعرة، وتقديم حوافز استثمارية للمطورين الجادين، إلى جانب ضمان معادلة عادلة بين حقوق الدولة وطموحات المستثمرين؛ حتى لا يضطر أصحاب الخبرة إلى الصمت أو العزوف عن المشاركة، خوفاً من فقدان حقوقهم أو استبعادهم من المشهد.

فى كثير من الدول، تدعم الحكومات نشاط المحاجر من خلال توفير خرائط جيولوجية دقيقة، أو عبر المسح الجوى بالطائرات، ثم تسهّل الاستثمار فى هذه المناطق من خلال البنية التحتية وتبسيط الإجراءات، وهو ما يجب أن تسعى مصر لتطبيقه إذا أرادت فعلاً الاستفادة من هذا المورد الوطنى.

كما أن تقليص الإجراءات البيروقراطية، وتسعير التراخيص بشكل عادل، وربط المحاجر بالمصانع بشكل مباشر، من شأنها أن تحقق طفرة فى الإنتاج والتصدير خلال فترة وجيزة.

جبال مصر غنية بخامات رائعة وفريدة، لكنها تنتظر نظرة عادلة ليستفيد منها المستثمر والدولة دون تجنٍّ على أى طرف. فمصر لا تعانى فقر الموارد، بل غياب الإدارة الرشيدة والتخطيط الإستراتيجى الكافى لتفعيل ما لديها.

وقطاع الرخام، كغيره من القطاعات الطبيعية، يمكن أن يكون قاطرة مهمة فى تنويع مصادر الدخل القومى، وزيادة الصادرات غير البترولية، والمساهمة فى خفض عجز الميزان التجارى. نحن أمام فرصة حقيقية لتحويل الجبال الصامتة إلى محركات اقتصادية حيوية، فقط إذا توافرت الإرادة، وتوحدت الرؤية، وتعاونت الأطراف على أساس من الشفافية والمصلحة الوطنية. وما أكثر ما فى أرض مصر من خير ينتظر من يخرجه بعلم وعدل.

بقلم:
عبدالحميد التهامى