حمّى عالمية.. الخوف يسرّع انفجار سعر الذهب ويهزّ الأسواق العالمية
يعيش العالم في موجة غير مسبوقة من الإقبال على شراء الذهب، حيث تتزايد شعبية المعدن النفيس بين المستثمرين والأفراد العاديين على حد سواء، مما يعكس حالة من الخوف المتصاعد والبحث عن ملاذ آمن وسط تقلبات الأسواق المالية والسياسات النقدية. هذا الاندفاع على الذهب يظهر بوضوح في الأسواق العالمية ويشير إلى تحول جذري في نظرة الناس إلى قيمة هذا المعدن الأصفر الثمين.
الاندفاع العالمي نحو شراء الذهب كملاذ آمن وسط الاضطرابات المالية
بدأت حالة الاندفاع على الذهب في طوكيو، حيث أُغلقت منافذ البيع بسرعة بعد نفاد الكميات المخصصة لليوم الأول، الأمر الذي يدل على الطلب المرتفع حتى بين المشترين الأفراد مثل المهندس كينجي أونوكي الذي اختار الذهب لأنه يرغب في اقتناء شيء ملموس له قيمة حقيقية. هذا الطلب انتقل بعدها من مشهد محلي إلى ظاهرة عالمية عرفت باسم “حمّى الذهب الكبرى”، حيث شمل نطاقها آسيا وأوروبا وأميركا، بما يؤكد أن الاهتمام بالمعدن لا يقتصر على المستثمرين المحترفين، بل يمتد إلى الجماهير الباحثة عن أمان أموالها.
تشير تقارير اقتصادية إلى أن الذهب استعاد بريقه الاقتصادي بعدما شهد ارتفاعًا مستمرًا على مدار ثلاث سنوات، مدفوعًا بشكل رئيسي من قبل البنوك المركزية للدول النامية التي تحوّل احتياطاتها بعيدًا عن الدولار الأميركي سعياً للحفاظ على قيمتها وسط عدم استقرار السوق العالمية. ولعبت صناديق المؤشرات المدعومة بالذهب دورًا بارزًا حيث شهدت دخول استثمارات تجاوز 26 مليار دولار في الربع الثالث فقط، مما رفع أسعار الأونصة الواحدة لأكثر من 4000 دولار في أفضل أداء منذ عام 1979، نتيجة مخاوف من انهيار مالي شامل يمزج بين الخوف والجشع والتقلبات السياسية.
صعود الذهب في اليابان ودور البنوك المركزية في إعادة تشكيل النظام النقدي العالمي
اليابان شهدت تحوّلًا لافتًا في تعامل المستثمرين مع الذهب بعد أن وصل سعر الغرام إلى مستويات قياسية لم تشهدها البلاد من قبل، حيث استُبصرت علاقة جديدة مع التضخم وضغوط ضعف العملة المحلية الين، مما دفع الأسر إلى تحويل مدخراتها إلى سبائك ذهبية لتفادي خسارة القيمة. ويؤكد متحدث من جمعية سوق الذهب اليابانية أن السلوك الاستثماري تغير تمامًا، وانعكس ذلك في تفضيل الأصول الثابتة على النقد الفعلي، في ظل فقدان قيمة الين وتراجع ثقة المستهلكين في الأوراق المالية.
هذا التوجه المحلي يعكس تحوّلًا عالميًا تقوم به البنوك المركزية، التي بدأت منذ 2022 بتقليل اعتمادها على الدولار الأميركي من خلال شراء كميات قياسية من الذهب. ووفقًا لمجلس الذهب العالمي، ارتفعت نسبة الذهب ضمن احتياطيات البنوك المركزية من 10% في السابق إلى ما يقارب 24% بحلول منتصف 2025، بقيمة سوقية تصل إلى 3.93 تريليون دولار، متجاوزًا قيمة السندات الأميركية المحتفظ بها خارج الولايات المتحدة، وهو ما يشير إلى تحول الذهب ليصبح الأصل الاحتياطي المهيمن خارج الولايات المتحدة، في إشارة رمزية إلى عصر ما قبل هيمنة الدولار.
الضغوط السياسية وتأثيرها على أسعار الذهب وتحذيرات من فقاعة مالية محتملة
السياسة كانت عاملًا مشتعلاً في زيادة الأسعار، حيث أثّرت الضغوط التي مارسها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب على مجلس الاحتياطي الفدرالي، خاصة في نزاعه مع رئيسة البنك ليزا كوك، مما أدى إلى قفزة سريعة في سعر الذهب نتيجة انخفاض الثقة في استقلالية البنك المركزي. وقد أكد خبراء أن استمرار هذا التوتر السياسي يساهم في اعتبار الذهب ملاذًا للأمان في ظل عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي.
وهنا يظهر عنصر الخوف كدافع رئيسي للمستثمرين، إذ تؤكد بيانات تدفق السيولة أن كل هبوط طفيف في السعر يقابله موجة شرائية جديدة، وهو ما وصفته بعض التقارير بسلوك “فومو المطلي بالذهب”، أي الخوف من فقدان فرصة ربحية في سوق متنافسة بشدة. لكن هناك تحذيرات من أن هذه الزيادة المفاجئة قد تؤدي إلى تكوين فقاعة مالية؛ إذ تجاوز السعر المتوسطات المتحركة التي سبق أن أدت إلى تصحيحات كبيرة في أسعار الذهب خلال العقود الماضية، وقد يرى محللون أن التزايد الكبير في المستثمرين قد يكون سببًا في أزمة جديدة بسبب تضخم الطلب.
السوق العالمي يشهد نشاطًا متزايدًا على الذهب، كما تؤكد ذلك زيادة مبيعات العملات الذهبية في بريطانيا خمس مرات مقارنة بالعام السابق، وانتعاش الطلب في تركيا التي يشكل الذهب جزءاً كبيرًا من ثروات الأسر، مع تأثير مباشر على سلوك المستهلكين المحليين. أما في هونغ كونغ، فقد بدأ البعض في جني الأرباح بعد فترة طويلة من الادخار في المعدن، في حين ارتفعت الفضة بدورها إلى مستويات تاريخية شجعت على تعليق مبيعات العملات الفضية كإجراء وقائي.
الذهب اليوم لا يمثل مجرد أداة للربح أو تحوط ضد التضخم، بل يعكس تآكل الثقة في النظام المالي العالمي والعملة الأميركية، ويعبر عن قلَق المستثمرين أمام سنوات من الديون والاضطرابات السياسية والنقدية، بما يجعله مرآة حقيقية لمخاوف الاقتصاد العالمي وسمته الأبرز في مواجهة أزمات المستقبل.