يوتوبستان .. جمهورية اللاشيء تزدهر مع زمن المشاهدة المستمرة وتغير قواعد الترفيه الرقمي

يبني الإنسان وجوده اليوم على عدد النقرات التي يحصل عليها، بدلاً من جودة أفكاره، فالخوارزميات تعلمت أن تغذي الجوعى بتصفيق افتراضي بدل تقديم المساعدة الحقيقية، وصارت المنصات الاجتماعية ساحة لصيد الأنفاس الأخيرة للحياة الرقمية المحتقنة، حيث يتحول الألم إلى محتوى يستعرض، والموت يصبح فقرة ضمن بث مباشر متسلسل، فيما يتفاعل الجمهور مع مشاهد خطيرة بصمت وشكوى لاحقة من ضعف الإنترنت.

كيف تتحكم خوارزميات “يوتيوب” في عالم اللايْكات وانتشار المحتوى الرقمي

على منصة “يوتيوب” التي تجمع ملامح المرئي وغير المرئي في بوتقة واحدة، يتشكل عالم جديد يُبلغ بـ”جمهورية اللايْكات”، حيث لا وجود لبرامج حكومية؛ المواطنون عبارة عن وجوه مصقولة وإيموجيات دائمة الابتسام ترتبط بدعوات “لا تنسَ الاشتراك” و”اضغط على الجرس ليصلك الجديد” كأنها تلاوة مقدسة تكرر في كنيسة الخلود الرقمي. يفرق بين الكائن المجهول والكائن المشهور فقط عدد المشاهدات؛ الأول يحصل على مشاهداته الأولى من نفسه ومن عائلته، والثاني يعيش في قصور مُحاطة بتعليقات ملونة بين محبة جارحة وكراهية مرَيرة، لكن هذا المزيج هو وقوده كما تتغذى النباتات على الشمس والماء.

اللايْكات ليست مجرد رد فعل، بل عملة وطنية تسير في سوق ذاتية تسمى سوق الـ vanity، حيث كل إعجاب يمثل جرعة من الأكسجين المعنوي، أما كل “ديزلايك” فهو محاولة انقلاب بائسة، وأخطرها هي “اللايْكات المجنونة” التي تنبع من عدوى جماعية لا لأن المحتوى فعلاً جدير بها، مما يشبه تصفيق جمهور لا يفهم النكتة لكنه يضحك بآلية تقليدية جماعية.

في خضم هذه الديناميكية، يتحول “يوتيوب” إلى حلبة سيرك ضخمة، يسعى فيها البعض لتحقيق ملايين المشاهدات بالقفز من الأسطح، بينما يشارك آخرون وصفات طعام غريبة لجذب نصف مليون مشاهد، ويتعرض بعضهم للإرهاق النفسي على أمل أن تلتقطهم خوارزمية ذهبية وتقذفهم بشاطئ “كوبا كابانا”. في هذه المسرحية، تُقاس الشهرة بكمية الإعلانات التي تسبق الفيديو، وبمدى تكرار عرضه على مشاهدين لم يطلبوه أصلًا. يعايش كل من النجوم والمجهولين في “المسرح الكبير” هذا الواقع حيث يتحول الحب إلى نسيان بضغطة زر.

رحلة إلى “يوتوبستان”: عالم لا تحكمه القوانين سوى عدد إعجابات المتابعين

تخيل أنك تهبط على كوكب جديد يُدعى “يوتوبستان”، حيث تعطل قوانين الفيزياء، والوقت يُقاس بعدد الإعجابات، وينتج الناس من بيضات شفافة يخرجون وهم يرقصون رقصة غريبة مع حركة يد تشبه طرد الأرواح الشريرة، معلنين شعورهم بالتأثير عبر ضغطات “قلب أحمر” من غرباء في أقاصي العالم.

تنقسم مخلوقات يوتوبستان إلى أنواع عدة تستحوذ على اهتمام المشاهد:

  • “الباندا الباكية”: تبكي أمام الكاميرا بلا سبب واضح قبل أن تضحك، استغلالًا لزيادة المشاهدات بنسبة 37%.
  • “التنين الطباخ”: يحضر وجبات غريبة من مكونات غير صالحة يُدّعي أنها تحمل فوائد روحية.
  • “حرباء مُكشّرة”: تغير ملامحها باستمرار حتى يصعب التمييز بين الأصل والصورة المُعدّلة.
  • “الحكيم ذو الثواني الخمس”: يقدم نصائح موجزة وعميقة ثم يختفي وسط الموسيقى الصاخبة.

وهنا، العملة الرسمية هي “المشاهدات”، ويكسب حاملوها ألقابًا مثل “سفير اللاشيء” أو “رئيس وزراء الشهرة المؤقتة”. أما المعارضة فتتجسد في مؤثرين غابوا عن الساحة لفترة، يعلنون اعتزالهم ويعودون بفيديوهات درامية بعنوان “اعتراف سيغير حياتك”. يضم “مهرجان اللاشيء الدولي” مسابقات تتحدى المنطق مثل:

  • شخص يحدق في الجدار لمدة ساعة كاملة.
  • شخص يشرح كيف يصبح مليونيراً من بيع الهواء المعبأ في زجاجات بلاستيكية.
  • وثالث يصفق لنفسه على الهواء مباشرة ويجني ملايين الإعجابات.

الشهرة المؤقتة وصراع الكائنات الرقمية في زمن المتابعة اللانهائية

وعندما تخبو الشاشة، يختفي هؤلاء مؤقتًا ليعودوا لاحقًا في دورة ولادة جديدة من اللاشيء المذهّب، كأنهم يفقسون من بيضة رقمية متجددة باستمرار. تخيل نافذتك التي تطل على “حديقة كائنات التيك توك”، حيث تلفت انتباهك “طائر التحدي” الذي يقفز فجأة، يسكب الصلصة الحارة على نفسه ويهتف تحت تصفيق إلكتروني يحمل وسم #الحياة_مغامرة.

ثم يتمظهر “سمكة البث المباشر” التي لا تتنفس إلا بسؤال بسيط “أشكدير؟” وتجاوبها “والو”، في استمرار محادثة بلا معنى حتى تجف البركة من الملل. وفي الزاوية المظلمة تنتشر “حشرة الإحراج” التي تؤدي رقصات غير مرغوبة وتردد عبارة “أنا مكَنْشْبَهْ لتّا حدْ”، وأخطرها هو “التنين الأزرق” الذي يسرع في تقليد أي تحدي صادم يُلتقط خلال 0.3 ثانية، حتى وإن تضمن التحدي أكل مسامير حقيقية من أجل المتابعين.

في زمن مؤثري الدقيقة الواحدة، الذين وُصفوا بأصحاب الرقصة العشوائية والتحديات الخطيرة التي تُرضي إله الخوارزمية، تقاس الحياة الرقمية بعدد المشاهدات التي تُستخلص منها تدفقات الدوبامين، فيما يتنقل هؤلاء بين طقوس غريبة مثل الرقصة لجذب المتابعين الجدد، وحذف الحساب والعودة بفيديوهات تحمل شعارات درامية.

الطقوس الرقمية لمؤثري الدقيقة الواحدة الوصف
رقصة الاستدعاء حركة يد لجذب المتابعين الجدد
تحدي التضحية أفعال خطيرة لإرضاء الخوارزمية
ليلة حذف الحساب الاعتزال الدرامي والمتابعة بـ”رجعت أقوى”

إن نهايتهم كانت مأساوية إذ لم يتحملوا ضغط الزمن الرقمي، فتلاشى وجودهم كإشعارات عابرة، ولم يبقَ منهم سوى آثار من بقايا تعبر عن سقوط حضارات تُولد وتموت في لحظة بين إعلان وآخر، مما يدفع للتساؤل عن طبيعة هذا السيرك الرقمي الذي نشارك فيه جميعًا بأصابعنا على أزرار الإبهام، ورغم ترفيهه الظاهر، هل هو مجرد تدريب خفي على السقوط الجماعي؟

لنتوقف عند هذا المشهد الذي صنعناه بأيدينا، ونترك محطات التأمل مفتوحة للمرة القادمة.

كاتب لدي موقع عرب سبورت في القسم الرياضي أهتم بكل ما يخص الرياضة وأكتب أحيانا في قسم الأخبار المنوعة