
لو كان ينبغي حظر استيراد شيء من كندا، فالأجدر أن يكون ذلك دخان حرائق الغابات الذي لا يستطيع الرئيس دونالد ترامب أن يفرض ضرائب عليه حتى لو شاء. للأسف، يتزايد انتشاره بلا حدود في جميع أنحاء أمريكا الشمالية والعالم، فيُعرّض الأرواح للخطر ويُلحق أضراراً اقتصاديةً تُقدر بتريليونات الدولارات سنوياً.
تُشير دراسة جديدة إلى أن دخان حرائق الغابات يُشكّل تهديداً أكبر لصحة الأمريكيين وازدهارهم من كثير من تأثيرات تغير المناخ الأخرى مُجتمعة.
بعد عامين تقريباً من تسبب دخان كندا بصعوبة التنفس في مساحة واسعة من الولايات المتحدة تمتد بين شيكاغو إلى نيويورك، منذ أيام غزت سحابة ضخمة أخرى من الدخان 48 ولاية تقع إلى الجنوب منها، لتفسد جودة الهواء من داكوتا الشمالية إلى ساوث كارولينا إضافة إلى شيكاغو ونيويورك. حتى أن بعض الدخان عبر المحيط الأطلسي ووصل أوروبا.
وسيستمر خطر اندلاع مزيد من الحرائق لعدة أيام، فقد امتد 202 حريق نشط من بريتيش كولومبيا إلى أونتاريو حتى كتابة هذه السطور، منها 104 حرائق خرجت عن السيطرة.
لم يكن هذا محض صدفة، فقد حدث هذا في عامين من الأعوام الثلاثة الماضية. لقد أدت الحرارة الناجمة عن احترار الكوكب بلا توقف إلى زيادة وتيرة حرائق الغابات وشدتها و”غرابتها” في جميع أنحاء العالم.
إلى جانب قرن من توقي حرائق الغابات وتزايد غزو البشر للمناطق الحضرية المتاخمة للغابات، حوّل هذا موسم حرائق الغابات إلى حدث يستمر على مدار العام في الولايات المتحدة، ولم يعد يقتصر على أقصى الغرب.
ظاهرة باتت عامةً
أخبرني مارشال بيرك، الأستاذ المشارك في جامعة ستانفورد، في مكالمة عبر زووم مع ماريسا تشايلدز، الأستاذة المساعدة في جامعة واشنطن: “مدى سرعة تغير هذا الخطر وعدد الأشخاص المتأثرين به في أماكن لم تتأثر به تاريخياً أمر ملفت. قبل عشر سنوات، كان يقتصر على الغرب فقط. أما الآن فقد اعتاده الجميع”.
تضاعفت مساحة الأراضي الأمريكية التي احترقت بسبب حرائق الغابات خلال العشرين عاماً الماضية، وفقاً للمركز الوطني المشترك بين الوكالات لمكافحة الحرائق. في كل من الأعوام الخمسة الماضية، تعرض الأمريكيون في الولايات المتحدة المتجاورة لما لا يقل عن ضعف كمية الجسيمات الدقيقة المرتبطة بدخان حرائق الغابات، المعروفة باسم (PM2.5)، مقارنةً بما تعرضوا له بين 2006 و2019، وفقاً لدراسة أولية أجراها تشايلدز وبورك وباحثون آخرون.
قال تشايلدز: “لن يخلو جزء من الولايات المتحدة من دخان حرائق الغابات في نهاية المطاف. حتى لو كانت هناك أجزاء صغيرة من البلاد لم تتأثر راهناً، فستتأثر في مرحلة ما”.
لقد أفسد كل هذا الدخان عقوداً من التقدم في تنقية الهواء الذي يتنفسه الأمريكيون من خلال خفض التلوث الناتج عن المصانع ومحطات الطاقة والسيارات.
أشار بعض الباحثين إلى أن دخان حرائق الغابات أكثر سمية بكثير من مصادر التلوث الأخرى. كما كتبت زميلتي في “بلومبيرغ أوبينيون” ليزا جارفيس إن دخان حرائق الغابات يضر بأكثر من مجرد الرئتين، ما يزيد خطر الإصابة بأمراض مختلفة، من الخرف إلى الولادات المبكرة.
نتائج مقلقة
شارك بيرك في ورقة عمل جديدة للمكتب الوطني للبحوث الاقتصادية، أشرف عليها مينغهاو تشيو، الأستاذ المساعد في جامعة ستوني بروك، وقد عمل أيضاً على النسخة الأولية من (PM2.5)، في محاولة لقياس الضرر الاقتصادي لهذه الظاهرة الجديدة والخطر المتزايد على صحة الإنسان. وتُثير النتائج القلق من جوانب عدة على الأقل.
أولًا، يُقدّرون أن ارتفاع درجة حرارة الأرض بمقدار 3 درجات مئوية فوق متوسطات ما قبل الثورة الصناعية -وهو المسار الذي يسلكه العالم حالياً- سيؤدي إلى 46200 وفاة إضافية بسبب دخان حرائق الغابات كل عام في الولايات المتحدة، ما يُضاعف المعدل من 2011 إلى 2020.
تُمثل كل واحدة من هذه الوفيات خسارة اقتصادية. في ورقة بحثية من المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية العام الماضي، قدّر كيو وتشايلدز وبورك وزملاء آخرون أن وفيات الدخان ستُسبب أضراراً سنوية للولايات المتحدة قدرها 244 مليار دولار بحلول 2050.
كما أن معظم النماذج الاقتصادية لم تُدرج بعد المخاطر الصحية لدخان حرائق الغابات في تقديرات ما يُسمى “التكلفة الاجتماعية للكربون”. وهذا مبلغ يُحدده الاقتصاديون بالدولار للضرر الناجم عن كل طن إضافي من ثاني أكسيد الكربون يُضخ في الغلاف الجوي، ما يزيد من احترار الكوكب.
أخبرني كيو في مكالمة هاتفية أن نموذج التكلفة الاجتماعية للكربون التابع لوكالة حماية البيئة يُحاول تضمين الوفيات المرتبطة بالدخان، لكنه يستخدم بيانات قديمة عن حرائق الغابات، وبالتالي يُقلل من تقدير الضرر إلى السُبع.
تقديرات الانخفاض المفرطة
تشير ورقة المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية الجديدة إلى أن كل طن إضافي من الكربون نضخه في الغلاف الجوي يُسبب احترار الكوكب وسيؤدي إلى كمية كافية من دخان حرائق الغابات تُسبب ضرراً اقتصادياً على الولايات المتحدة يُقدر بحوالي 15.10 دولار. قد لا يبدو هذا كثيراً، لكن احسبوا حوالي 40 مليار طن من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية سنوياً، وستجدون أن الناتج رقم قياسي.
في الواقع، قد تكون الوفيات الناجمة عن دخان حرائق الغابات على الأقل توازي أي عامل آخر يُضاف إلى معظم نماذج التكلفة الاجتماعية للكربون من حيث أثرها المدمر للاقتصاد، كما بين تشيو، ما يشير إلى أن معظم التقديرات السابقة لأضرار تغير المناخ كانت منخفضة جداً بما يكاد يصل إلى 100%.
حتى هذه التقديرات الأكبر التي تقل عن الواقع. فهي لا تقيس الضرر الذي يلحق بإنتاجية العمل عندما يعاني الناس من صعوبة في التنفس، إلى جانب التكاليف الطبية للربو والنوبات القلبية والسكتات الدماغية والولادات المبكرة وغيرها.
لقد وجدت ورقة عمل صدرت في 2024 عن الاحتياطي الفيدرالي في دالاس وفيلادلفيا وكلية أندرسون للإدارة بجامعة كاليفورنيا لوس أنجلوس، أن حرائق الغابات تزيد ديون بطاقات الائتمان لمن يعيشون على بُعد كيلومترات عديدة من الحرائق بسبب ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية.
ولم نأتِ بعد على ذكر الأضرار التي ما تزال حرائق الغابات تُلحقها بقطاع تأمين المنازل المتعثر، كما كشفت حرائق لوس أنجلوس هذا الشتاء.
التخلي عن الوقود الأحفوري
استعانت دراسة حديثة أعدها باحثون في كلية بوث لإدارة الأعمال بجامعة شيكاغو وكلية وارتون بجامعة بنسلفانيا، بمقياس التكلفة الاجتماعية للكربون لوكالة حماية البيئة الأمريكية للإشارة إلى أن انبعاثات الشركات الأمريكية ستُلحق أضراراً اقتصادية بقيمة 87 تريليون دولار بحلول 2050. وفي ضوء هذه الورقة الجديدة، ربما تدين الشركات الأمريكية للمواطنين فعلياً بمبلغ 174 تريليون دولار.
بينما ننتظر التحقق من هذا، علينا أن نكون أذكى تعاملاً مع حرائق الغابات والدخان. ويمكننا أن نستهل ذلك بالتخلي عن الوقود الأحفوري. سيكون مفيداً فرض رسوم جمركية، على شكل ضريبة كربون، لتعويض بعض هذا الضرر.
لكن حتى لو فعلنا كل ذلك غداً، سيستمر تزايد خطر الحرائق لعقود بسبب الاحترار. يمكن أن تساعد الإدارة الأفضل للغابات، بما يشمل الحرق المضبوط، بالتخفيف من هذا الخطر، وكذلك نقل البشر بعيداً عن حدود المناطق الحضرية مع الغابات.
في غضون ذلك، يجب على المسؤولين الحكوميين بذل جهد أكبر لتحذير الناس من مخاطر الدخان وتوفير أجهزة التنفس وأقنعة الوجه عالية الجودة ومرشحات الهواء عالية الكفاءة لكل من يحتاجها. لقد فاجأ الدخان الكندي الذي اجتاح الولايات المتحدة قبل عامين الجميع. لسنا في وضع أفضل بكثير اليوم.
قال تشايلدز: “لم يُبذل جهد كافٍ للاستعداد .. بينما نحتاج على المدى البعيد إلى التفكير في كيفية إدارة الغابات وتغير المناخ، نحتاج على المدى القصير إلى حماية الناس من التعرض. وهذا يشمل عدم الاعتماد على الناس لحماية أنفسهم”. نحن حرفياً لا نستطيع أن نتحمل عدم الاستعداد بعد الآن.
وكالة أنباء “بلومبرج”
مارك جونجلوف، كاتب مقالات رأي لدى “بلومبرج”