تحويل ركام السودان إلى ذهب .. كيف نستغل الموارد لتحويل الاقتصاد وتحقيق التنمية المستدامة؟
استثمارات الخارج في السودان: كيف ينتقل السودان من ويلات الحرب إلى بناء اقتصاد مستقر وجاذب للاستثمار؟
في قلب الأزمة التي تعيشها السودان، يظل الاستثمار الأجنبي هو المحور الذي يحدد مصير الاقتصاد ومستقبل التنمية، ففي ظل الحرب المستمرة وتداعياتها الاقتصادية، يُطرح السؤال حول كيفية استرداد السودان لثقة المستثمرين وتحويل رأس المال الأجنبي إلى قوة دافعة للنمو والتنمية المستدامة.
تاريخ الاستثمار الأجنبي في السودان: من الزراعة إلى الذهب الأسود والفرص الضائعة
شهد الاستثمار الأجنبي في السودان تحولات جذرية عبر العقود، بدأً من قطاع الزراعة الذي كان المحرك الرئيس للاقتصاد السوداني حتى التسعينيات، ثم اتجهت الأنظار نحو النفط قبل أن يصبح الذهب المورد الرئيسي في العقد الأخير. صدور أولى القوانين الاستثمارية بعد الاستقلال عام 1956 لم يسهم في جذب استثمارات أجنبية كافية، ومع اعتماد سياسة النيوليبرالية في التسعينيات، شهد السودان إصلاحات اقتصادية شملت قانون تشجيع الاستثمار لعام 1990 وتعديلاته، مما دفع قطاع النفط إلى الصدارة.
صعود النفط كقطاع رئيسي جذب استثمارات وصلت إلى 3.5 مليار دولار في عام 2006، لكن انفصال الجنوب السوداني وحصوله على معظم آبار النفط، تسبب في هبوط حاد للاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى مستويات أقل بكثير حتى 2018. حكومة الفترة الانتقالية 2019-2021، رغم الإصلاحات المحاولة لتحرير الاقتصاد مثل تحرير سعر الصرف ورفع الدعم، فشلت في استعادة ثقة المستثمرين، حيث تراجع الاستثمار الأجنبي إلى أدنى مستوياته منذ عشرين عامًا.
السودان وسلة الغذاء العربية: إمكانيات زراعية ضخمة تواجه تحديات الاستثمار الأجنبي والزراعة المستدامة
تُعد الأراضي الزراعية في السودان من أكبر الثروات الطبيعية، حيث تبلغ 175 مليون فدان صالحة للزراعة مع مصادر مائية متنوعة، إضافة إلى ثروة حيوانية ضخمة تجذب الاستثمارات الأجنبية، خاصة من دول الخليج التي ترى في السودان فرصة لسد عجزها المائي والغذائي.
رغم ذلك، تحولت الاستثمارات الزراعية منذ تسعينيات القرن الماضي من قطاع مستقطب لحوالي 85% من الاستثمار الأجنبي، إلى أقل من 1% عام 2006، بفعل ازدهار النفط وفقدان الأولوية للقطاع الزراعي. خلافات حول ملكية الأراضي وضعف حقوق المزارعين والرعاة والتوترات الاجتماعية أدت إلى تصريح استثمارات تتحول أحيانا إلى مصدر للصراع بدلاً من التنمية، فمثلاً في 2018 أدى مشروع زراعي قرب الخرطوم إلى اشتعال احتجاجات وهجمات على المحاصيل، مما دفع الشركات إلى تعزيز الإجراءات الأمنية بدلاً من الحوار المجتمعي.
التحديات الكبرى للاستثمار الأجنبي في السودان بعد الحرب: من عمليات التهريب إلى انهيار البنية التحتية
الاستثمار الأجنبي في السودان يواجه عقبات جمة؛ فبعد الانفصال ونزاعات دارفور، طغت أزمات الأمن والفساد والتهريب، خصوصًا في قطاع الذهب الذي يمثل المورد الأبرز حاليا، حيث أكد تقرير أن 97% من إنتاج الذهب لم يُصدر عبر القنوات الرسمية خلال الفترة من 2012 إلى 2018، مسجلاً خسائر مالية كبيرة للدولة. العنف المصاحب للصراع أدى إلى نزوح 14 مليون شخص منذ أبريل 2023، وشل الأسواق والمصانع، وبلغ انهيار الاقتصاد نسبة 29% عام 2023 ومؤشرات كارثية تضمنت تضخماً يقارب 170% وانهيار الجنيه أمام الدولار بنسبة 355%.
تدهور البنية التحتية شمل انهيار شبكات الكهرباء والمياه، بالإضافة إلى توقف 80% من المرافق الصحية وإغلاق أكثر من 10 آلاف مدرسة، في ظل تقديرات حكومية تضع كلفة إعادة الإعمار بمئات المليارات من الدولارات. في هذه الظروف، لا يكتفي الاستثمار الأجنبي بالتردد بل ينسحب أو يتوارى، مما يحتم وجود استراتيجية واضحة لإعادة بناء الثقة الوطنية والدولية.
خريطة طريق لإعادة بناء الثقة وجذب الاستثمار الأجنبي في السودان بعد النزاعات
لتتجاوز السودان أزماتها، وتعيد الاستثمار الأجنبي دوره الجميل في التنمية، لا بد من إجراءات عملية ومستدامة تعتمد على خمس ركائز متكاملة:
- تحقيق السلام والاستقرار السياسي والأمني، للحد من الصراعات وتحقيق شرعية المؤسسات الحكومية.
- إصلاح اقتصادي شجاع، عبر إنهاء الامتيازات غير العادلة وتدعيم القطاع الخاص الوطني كشريك حقيقي.
- تحديث البيئة القانونية عبر تعديل قوانين الاستثمار وإنشاء جهة موحدة للتراخيص، وضمان الشفافية في عقود الزراعة والتعدين.
- إعادة تأهيل البنية التحتية من طرق وكهرباء وموانئ، مستفيدة من شراكات القطاعين العام والخاص.
- تكوين شراكات دولية متنوعة لتمويل المشاريع التنموية، مع تجنب التبعية وضم استثمارات عادلة من الخليج والبريكس، إضافة إلى تعبئة مدخرات المغتربين في صناديق وطنية.
هذا المسار يضع ثقة المستثمرين في صلب عملية التنمية، ليحولها من مجرد تدفق مالي إلى بوابة لإعادة بناء وطن.
تكررت في السودان تجارب استيراد وصفات اقتصادية جاهزة دون اعتبار لبنيته الاجتماعية والسياسية المعقدة، مما ثبت فشلها في جلب التنمية المنشودة. هذه التجارب تعيد إلى الأذهان تحذير “كينيث كوما” من بوتسوانا التي تشبه الاقتصاد الذي يسلم مصيره للخارج برجل يفقد السيطرة على بيته بعد الزواج من ثرية.
لذلك، لا يرتبط سؤال الاستثمار الأجنبي في السودان فقط بعودة الأموال، بل بكيفية وشروط قدومها، وهل ستساهم في التنمية المستدامة أم ستكون وسيلة لترسيخ تبعية جديدة قائمة على نهب الموارد وتقليص دور المواطن في القرار الوطني. لضمان أن يكون الاستثمار رافعة حقيقية، على السودان أن يضمن الشفافية والمساءلة وربط الاستثمارات بالبنية التحتية والخدمات الأساسية، إلى جانب تأسيس صندوق سيادي يحفظ العوائد ويضمن حقوق المجتمعات المحلية.
في السياق الراهن، لا يزال القرار اليوم هو محدد شكل مستقبل الاستثمار الأجنبي في السودان، فهل ستختار البلاد مسارًا للجسر الذي يعبُر بها نحو التنمية، أم تبقى أسير الماضي المؤلم والنهب المستمر؟